كان عصر "سعيد باشا" بكل المقاييس هو العصر الذهبي لـ"أحمد عرابي"، ففيه تحقق أمله بالانضمام إلى الجيش حين قضت أوامر "سعيد باشا" بتجنيد أبناء عمد البلاد ومشايخها، وفيه تدرج عرابي في المناصب بسرعة فائقة من مجرد جندي بسيط إلى أن أصبح عقيداً وهو بعد في العشرين من عمره..
"عرابي".. مافيش أطيان!
ولما توفي "سعيد باشا" وتولى "الخديو إسماعيل" حكم مصر سنة 1863م فقد "عرابي" الحظوة التي كانت له، فقد كان "إسماعيل" يميل إلى الاعتماد على الضباط الأتراك والشراكسة ولا يثق كثيراً في كفاءة الضباط المصريين، فعانى "عرابي" مراراً في عهد "إسماعيل" من ظلم واضطهاد قادته من الأتراك والشراكسة، وخاصة قائده الشركسي اللواء "خسرو باشا"، فقد حدث في أوائل عهد "إسماعيل" أن أمر الخديو -إثر مشاهدته لمناورات حربية شاركت فيها فرق الجيش المختلفة- بتوزيع أراض زراعية على كبار الضباط، وفي ذلك يقول "عرابي" في مذكراته "أمر لكل واحد من الباشوات (اللواءات) بـ500 فدان، ولكل واحد من الأميرالايات (العمداء) بـ200 فدان، ولكل واحد من القائمقامات (العقداء) بـ150 فدان"، ولكن "خسرو باشا" وشى بعرابي عند وزير الحربية واصفاً إياه بأنه شرس الأخلاق ولا ينقاد لأوامره، كما أنه لا يحفل بأوامر ديوان الجهادية، وقد أخبر وزير الحربية الخديو بما ذكره "خسرو باشا"، فأصدر تعليماته بعدم تسليم "عرابي" هذه الأطيان..
ويرى "عرابي" أن هدف هذه الوشاية هو أن يخلو مكانه فيتسنى لـ"خسرو باشا" ترقية البكباشي الشركسي "مصطفى سليم" إلى رتبة القائمقام وتعيينه بدلاً من "عرابي"، فأوعز "خسرو باشا" إلى هذا البكباشي بكتابة شكوى بناء على أقوال جنديين مسجونين بسبب فرارهما بعد تجنيدهما، ويتهمان "عرابي" بظلمهما ويطلبان التحقيق، ورفع البكباشي هذه الشكوى إلى "خسرو باشا" فعقد مجلساً عسكرياً للتحقيق فيها، ورغم عدم صحة شكواهما، إلا أن المجلس العسكري أمر بسجن "عرابي" 21 يوماً مجاملة لـ"خسرو باشا"، مما دعا "عرابي" لاستئناف الحكم أمام المجلس العسكري العالي الذي قضى بإلغاء ذلك الحكم الابتدائي، ولأن وزير الجهادية الشركسي كان يريد شخصياً معاقبة "أحمد عرابي"، فبعد أن فشلت لعبة المحاكمة، سعى لدى الخديو لفصل "عرابي" من الجيش، وهو ما تحقق بالفعل..
ولا شك أن هذا الظلم الساحق قد أورث "عرابي" بغضاً كبيراً للأتراك والشراكسة الذين حرموه أولاً من الأراضي الزراعية التي أمر له بها الخديو، ثم تسببوا بعد ذلك في فصله نهائياً من الجيش بلا سبب، وربما لو لم يتعرض "عرابي" شخصياً لمثل هذا الظلم لما فكّر يوماً أن ينفخ من روح سخطه في الجيش ويقوده للثورة..
وستشرف على الكباري!
وهكذا قضى "عرابي" 3 سنوات بعيداً عن الجيش، تدهورت فيها حالته المادية تماماً، وإن حاول استغلال عطلته الإجبارية تلك في تنمية ثقافته بالمواظبة على التردد على الأزهر الشريف، ودراسة تاريخ مصر..
وقد توسط لـ"عرابي" بعض الخيريين لدى "الخديو إسماعيل" فأصدر أمراً بالعفو عن أخطائه وإلحاقه بالعمل عند ظهور وظيفة مناسبة، فأسند لـ"عرابي" القيام بعدد من الأعمال المدنية مثل المحافظة على بحر مويس بالشرقية، والإشراف على بناء عدد من الكباري في الصعيد، وبعد انتهاء "عرابي" من هذه الأعمال على الوجه الأكمل كوفئ بفصله لحين ظهور وظيفة جديدة له في مصالح الحكومة..
وبعدها توسط له بعض أولاد الحلال من جديد فالتحق بأشغال دائرة الحلمية، وتمكن خلال ذلك من الزواج من ابنة مرضعة "إلهامي باشا"، وهي أخت زوجة "الخديو توفيق" من الرضاع بالمناسبة، وكان ذلك كما يقول "سليم النقاش" في كتابه (مصر للمصريين) "من أكبر الدواعي لعفو "إسماعيل" عنه وإرجاعه إلى وظيفته في الجيش كما كان"، وإن كان القول الراجح أن "عرابي" قد عاد إلى الجيش في نهاية عصر "الخديو إسماعيل" بعد أن توسط له عند الخديو "قاسم باشا" الذي عرف "عرابي" عن قرب أثناء إنشاء الكباري وكان "قاسم" حينها ناظراً للخاصة الخديوية..
ومن عجائب القدر أن "أحمد عرابي" لم ينل رتبة الأميرالاي (العميد) إلا في سنة 1879م من "الخديو توفيق"، بعد أن ظل طوال عصر إسماعيل ولـه 19 سنة متواصلة يحمل رتبة القائمقام (العقيد)، وقد توجه "عرابي" فور حصوله على الترقية الجديدة إلى سراي رأس التين بالإسكندرية ليقدم للخديو توفيق "شكره مقروناً بعبارات الإخلاص والولاء والدعاء، فشمله توفيق برعايته وجعله ضمن ياورانه" كما يروي "الرافعي". كل هذا دون أن يخطر على بال أحد الرجلين أنه بعد أقل من عامين فقط سيزلزل "عرابي" عرش سيده الذي طالما لهج لسانه بالدعاء له والثناء عليه..